أواخر الخلافة العثمانية كثر صراع السلاطين على الزعامة والنفوذ، وإنتشر السجن والقتل بينهم، حتى إنّ أحد الخلفاء قتل تسعة من إخوانه لتثبيت حكمه وحكم ولده من بعده.
أليست هذه الحادثة جديرة بالتأمل والنظر؟! غريب هذا الإنسان.. ألهذا الحدّ يبلغ به بريق الزعامة؟! ألهذا الحد يطغى ويتجبر من أجل الوصول إلى القمة؟!.
وليس هذا المثال نشازاً لا نظير له، فكتب التاريخ -في قديم الدهر وحديثه- طافحة بنظائره، بل إنّ التاريخ الحديث يُرينا إبادة وإذلال شعوب بأكملها، فحبّ الزعامة والظهور يُعمي ويصم، ويجعل الإنسان يبيع كل شيء من أجل الوصول إليها.
وليس عجيباً أن تتواتر النصوص النبوية في التحذير من السعي إلى الإمارة، فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب، لقد إعتدنا ذلك من الساسة وطلاب الدنيا، وأصحاب المغانم الفانية.
ولكن الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بعض التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر حيناً، ومن حيث لا تشعر أحياناً أخرى حتى يصبح همّ المرء أن يسوّد على خمسة أو عشرة أو أقل أو أكثر دون أن يُفكر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، فهي أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، قال يوسف بن أسباط: الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا.
إنّ ضباباً كثيفاً يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان القيادة يطل عليه من بعيد، وتظل نفسه تحدّثه، ويُمنيه هواه بالوصول إليها، فتراه ينسى نفسه ويلهث من أجل الوصول إليها، والعض عليها بالنواجذ، ثم تجد التسابق والتنافس، بل الكيد والكذب أحياناً للوصول إلى المطلوب، فالغاية تبرّر الوسيلة! وصدق الفضيل بن عياض عندما قال: ما من أحد أحبّ الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً وشرفاً، ينتفخ فيها المرء ويتيه ويتبختر.
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخرف عاجل، وعرض قريب، وما أجمل قول الحافظ الذهبي: ما أقبح بالعالم الداعي إلى الله الحرص وجمع المال.
إنّ حبّ الظهور والعلو بداية السقوط والإنحراف والفشل، وما أحكم رسول الله حينما يقول: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» رواه الترمذي وأحمد وإسناده صحيح.
قال شدّاد بن أوس رضي الله عنه: يَا بَقَايَا الْعَرَبِ.. يَا بَقَايَا الْعَرَبِ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم: الْرِّيَاءُ، والْشَّهْوةُ الْخَفِيّةُ، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة.
وإنّ نصر الله عز وجل، وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء الأتقياء، الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
الكاتب: أحمد الصوبان.
المصدر: موقع ياله من دين.